أزمة الهوية- من أوروبا إلى العالم العربي والإسلامي، غزة في الميزان.

المؤلف: د. خالد حاجي11.16.2025
أزمة الهوية- من أوروبا إلى العالم العربي والإسلامي، غزة في الميزان.

في منعطف القرنين العشرين والحادي والعشرين، برزت كتابات أوروبية عديدة تتناول مسألة الهوية بعمق، حتى غدت أشبه بتجسيد لأزمة مستترة، بدلًا من مجرد كونها موضوع بحث عابر ومؤقت.

من بين المؤلفات التي استرعت انتباهي بشكل خاص في هذا المجال، يبرز كتابان: الأول لمؤلفه "نويد كرماني" (Navid Kermani)، تحت عنوان "من يكون هذا النحن؟" (Wer ist Wir?)؛ والكتاب الآخر لـ "دافيد بريشت" (David Precht) تحت عنوان "من أنا، وفي حال الإثبات فإلى أي حد؟" (Wer bin ich – und wenn ja wie viele?).

يلحظ المتأمل غرابة العناوين للكتابين في المقام الأول، إضافة إلى صياغتها بأسلوب الاستفهام، مما يؤكد أن الهوية الأوروبية أصبحت موضع تساؤل عميق قبل أن تكون محل إجماع واتفاق تام.

بالرغم من التباين في أسلوب الكتابة وطبيعة المقاربة، يفتح هذان الكتابان نافذة للتأمل في الهوية الأوروبية بوصفها مشروعًا استشرافيًا للمستقبل، وكينونة قيد التكوين والتشكل المستمر، بدلًا من اعتبارها حقيقة مكتملة ومنجزة بصورة نهائية.

مع مرور الوقت، بات عجز أوروبا عن تحقيق هوية متجانسة ومنشودة جليًا وواضحًا للعيان. وقد تجلى ذلك بوضوح في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الذي كان بمثابة إقرار صريح بفشل مشروع ترميم الهوية الأوروبية المتصدعة والمتآكلة.

هذا التآكل يبلغ ذروته اليوم، مؤديًا إلى ما يسميه "إيمانويل طود" (Emmanuel Todd): "هزيمة الغرب" (La Défaite de l’Occident).

هزيمة النخب البروتستانتية الأميركية والغرب

يشير "طود" في مؤلفه حول الهزيمة إلى أن الغرب، بقيادة النخب البروتستانتية الأميركية على وجه الخصوص، قد استنفد مخزونه الأخلاقي، متحولًا إلى مجتمعات لا تحكمها إلا ضوابط المصلحة المادية البحتة، التي تمليها دوائر المال والأعمال. ويرى أيضًا أن عجز أوروبا عن الاستقلال عن الولايات المتحدة الأميركية يدفعها إلى خوض حروب عبثية لا جدوى منها.

ولعل من أبرز هذه الحروب العبثية، التي لا ناقة لأوروبا فيها ولا جمل، حرب الإبادة الدائرة رحاها اليوم في غزة، وسبقتها حرب أوكرانيا، التي كان لحلف شمال الأطلسي – تحت قيادة الولايات المتحدة الدائمة – دور كبير في إشعال فتيلها.

هذه الحروب جاءت لتؤكد حقيقة راسخة في تاريخ الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، إذ أنها تصر في كل مرة تستطيع فيها أن تحل اللين محل الشدة على أن تستخدم العنف بدلًا من الحكمة، مضيعة بذلك على نفسها وعلى غيرها فرصة المساهمة في إرساء نظام عالمي يكفل السلام، ويعزز قيم العدل والحرية والنزاهة الأخلاقية.

رغم الاختلاف في أسلوب الكتابة وطبيعة المقاربة، يفتح الكتابان باب التأمل في الهُوية الأوروبية بوصفها موضوع استشراف مستقبلي، وبوصفها شيئًا قيد التشكّل، عوضَ أن تكون شيئًا متحققًا كاملًا ومنجزًا

تجدر الإشارة هنا إلى ما ذكره أمين معلوف في كتابه "متاهة الضالين" (Le Labyrinthe des égarés) – مع التنبيه إلى أن الإشارة لا تعني التوافق التام مع جميع مواقف الكاتب – حول الرئيس الأميركي "وودرو ويلسون" وتنكّره الصارخ للمبادئ التي طالما نادى بها، مثل مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها.

يوضح معلوف كيف أن هذه المبادئ لم تكن سوى شعارات وألفاظ جوفاء، ولم توضع لتحقيق المعاني الحقيقية التي تعلقت بها الشعوب. فتحرير الشعوب عند "ويلسون" لم يكن مبدأً شاملًا لجميع الأمم، كما اتضح في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، بل كان محصورًا في شعوب أوروبا الشرقية فقط، التي كان لابد من تخليصها من قبضة روسيا في ذلك الوقت.

يمكن القول إن وضع الشعوب التي استنجدت بالولايات المتحدة لتحقيق استقلالها في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، كان أشبه بمن يستجير من الرمضاء بالنار.

فكيف يسعى لتحرير الشعوب في الخارج من لم يتخلص من التمييز العنصري في الداخل؟ لقد كان انخراط "ويلسون" في دعم هذا التمييز واضحًا وجليًا في السياق الأميركي، حتى إن بعض المراكز والجامعات الأميركية التي كانت تحمل اسمه قد اختارت لنفسها أسماء أخرى اليوم، في إدانة صريحة لمواقفه العنصرية.

لم تتخلص الولايات المتحدة حتى يومنا هذا من آفة العنصرية في الداخل، حتى بعد وصول "باراك أوباما" إلى سدة الحكم، وهو ما يؤدي إلى انفجارات متكررة للأوضاع، وينذر بتوتر عرقي لا نهاية له.

ولأميركا في التاريخ، غرائب جمة من الغموض الأخلاقي وإظهار الصلاح في موطن الفساد، حين يتعلق الأمر بالتمييز العنصري، ما لا يسع المقام لذكره، وما يذكرنا بما يحدث على مرأى ومسمع من العالم اليوم من تلاعب بالقانون الدولي، وتجاوز لمبادئ العقل السليم، خدمة لأغراض فاسدة وواضحة.

يذكرنا "معلوف" في معرض حديثه عن رسوخ التمييز العنصري في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، بحالة من حالات التوسل بالقانون لإخفاء حقيقة هذا التمييز، وهي حالة تدعو إلى السخرية من فرط تملقها وإصرارها على التستر على الفساد الظاهر.

فمثلًا، في محاولة لمنع السود من تسجيل أسمائهم للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات، قررت العديد من الولايات فرض رسوم على كل من أراد تسجيل اسمه في قائمة التصويت، أو مطالبتهم بإثبات القدرة على القراءة والفهم؛ وحتى يتم التأكد من أن هذه الإجراءات لا تستهدف سوى السود، وليس البيض من الفقراء والأميين، تمت إضافة مادة تنص على أن القوانين الجديدة لا تطبق على من كان آباؤه وأجداده يتمتعون بحق التصويت.

لا حصر لهذه الأساليب الملتوية في سجل تعامل الولايات المتحدة الأميركية مع قضايا العالم، وعلى رأسها قضية الشعب الفلسطيني. فحرب الإبادة التي تشنها إسرائيل ضد هذا الشعب تتم بمباركة الولايات المتحدة الأميركية في المقام الأول.

فبدلًا من العمل على التوصل إلى حل عادل ومنصف ونهائي للقضية الفلسطينية، تتمادى أميركا، في موقف مماثل لموقفها من قضية التمييز العنصري عبر التاريخ، في إيجاد صيغ قانونية وشرعية لقضية غير أخلاقية في الأساس، في حين كان بإمكانها أن تتقمص دور القوي المتخلق وتحسم الأمر بإنهاء الصراع.

إن العجز عن إيقاف الإبادة في غزة- إذ يكرّس الشعور بنهاية سردية الوحدة العربية وسردية الأمة الإسلامية سياسيًا وعسكريًا، ويفاقم الشعور بالغبن والمذلة والهوان في الشوارع- يفتح أفقًا جديدًا واقعيًا أمام الفكر والفعل، في المجالين السياسي والمجتمعي الثقافي

من الواضح أن الحاجة إلى إثبات هزيمة الغرب الأخلاقية أمام ما يحدث في غزة لم تعد ضرورية. ولكن ما يحتاج إلى إثبات في المقابل هو تماسك هوية العالم العربي والإسلامي وتفوقه الأخلاقي.

لا يجدي نفعًا أن ننشغل بالحديث عن تفكك هوية الغرب وسقوطه الأخلاقي، ونتغاضى عما يختصم في العالم العربي والإسلامي من سرديات جديدة لا تعد ولا تحصى، تسعى إلى احتكار الحق في تحديد هوية هذا العالم؛ أو ما يضطرب فيه من عزائم متنافرة، بعضها يتجه نحو الشرق وبعضها الآخر نحو الغرب. فالحقيقة هي أن هذا العالم ليس بمنأى عن تفكك الهوية والتلاشي القيمي والأخلاقي.

في هذا السياق، أجدني أردد مع فرقة "ناس الغيوان" المغربية مطلع أغنية قديمة لطالما رددتها أصوات جيل بأكمله، تقول: "واشْ حْنَا هُما حْنا أَقلْبي والّا مُحالْ؟".

أرى أن لهذا السؤال، الذي طرح في سياق فني شعبي قبل أربعين عامًا، أهمية كبيرة في الوقت الراهن. يحق لنا أن نتساءل، كما فعل "كرماني" و"بريشت" في السياق الأوروبي: هل ما زلنا نحن؟

على طريق المراجعة

إن ما يحدث في غزة اليوم له دور حاسم في الدفع نحو مراجعة التصورات السائدة في السياق العربي والإسلامي حول الذات والآخرين. وبينما تعلو الهتافات "بالروح بالدم نفديك يا فلسطين" في شوارع عالمنا العربي والإسلامي، نلمس تفككًا واضحًا لفكرة الوحدة العربية أو الأمة الإسلامية على المستوى السياسي.

بين دائرة الشارع والدائرة السياسية هوة واسعة وفجوة لا يمكن ردمها، فالشارع ليس فضاءً عامًا مؤثرًا في القرارات السياسية، بل هو مجرد فضاء للتنفيس لا أكثر. ومما يزيد الطين بلة أن هذا الفضاء يشهد اليوم منافسة من فضاء رقمي تدور فيه معارك طاحنة حول أتفه الأسباب، ولا تزيد الواقع العربي والإسلامي الممزق إلا تمزقًا.

إن العجز عن وقف الإبادة في غزة – إذ يكرس الشعور بنهاية سردية الوحدة العربية وسردية الأمة الإسلامية سياسيًا وعسكريًا، ويزيد من الشعور بالظلم والإهانة في الشوارع العربية والإسلامية – يفتح أفقًا جديدًا وواقعيًا أمام الفكر والفعل، سواء في المجال السياسي أو المجال المجتمعي الثقافي.

من البديهي أن الإنسان يخدع نفسه إذا توهم أنه يمكن تجاوز إكراهات واقع الدول القطرية لتوحيد شعوب العالم العربي والإسلامي.

ولكن ليس من السذاجة التفكير بشكل استراتيجي، في ضوء التحولات الكبرى التي أشرنا إليها، في إعادة بناء فضاء عام عربي إسلامي يلتزم بضوابط هوية جامعة ومستوعبة، تستمد مقوماتها من شعورين أساسيين: الشعور بالانتماء الحضاري، والشعور بوحدة المصير. وتحقيق هذين الشعورين شرط ضروري للانفتاح على العالم بأسره.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة